الأربعاء، 1 يناير 2014

0





ينتمي أحمد عبود باشا إلى جيل فرغلي باشا ذي الوردة الدائمة في عنق الجاكيت "ملك القطن"، وسيد ياسين "ملك الزجاج"، وإلياس أندراوس "ملك البورصة" وغيرهمغير أن أحمد عبود، يختلف عن أقرانه بأنه مليونير عصامي بدأ من القاع.. أو تحته قليلاًومن مجرد فتى يملك أبوه يملك حماماً شعبياً في حي باب الشعرية، أصبح رجل أعمال يملك إمبراطورية ضخمة من صناعة السكر والصناعات الكيميائية والورق والشحن والقطن، تبلغ قيمته 100 مليون دولار (مجلة تايم الأمريكية، عدد 10 يناير 1964)يا لها من رحلة جمعت بين الاستثمار والسياسة..والفسادظل أحمد عبود يساعد والده في إدارة الحمام الشعبي حتى تخرج في المهندسخانة. عمل بعد تخرجه بأجر شهري لا يتجاوز خمسة جنيهات في وابورات تفتيش الفيكونت الفرنسي هنري غابرييل الشهير بالكونت دي فونتارس بأرمنت، وفُصِلَ منه بعد فترة ليعمل مع أحد مقاولي الطرق والكباري بفلسطين، وكان ينفذ بعض العمليات للجيش الإنجليزي. وفي تلك الفترة تعرف إلى مدير الأشغال العسكرية للجيش الإنجليزي ونشأت بين عبود وبين ابنة هذا الضابط الإنجليزي المهم قصة حب انتهت بالزواجوهنا جاء التحول الكبير في حياة هذا المهندس الشاب، حيث ترك العمل لدى المقاول واشتغل بالمقاولات. وبمساعدة حميه أسندت إليه معظم أشغال الجيش الإنجليزي في فلسطين ومدن القناة حتى تكون لديه رأسمال استطاع به أن يشتري معظم أسهم شركة ثورنيكروفت Thornycroftللنقل بالسيارات بالقاهرة، ثم شركة بواخر البوستة الخديوية، حتى ظهر اسمه في عام 1935 في ذيل قائمة أغنياء مصر أيامهاكان عبود أحد أولئك الذين استفادوا من ظروف الحرب العالمية الثانية ليحقق ثروة طائلة من أرباح أسطول السفن الذي كان يملكه، في ظل ارتفاع أجور النقل ارتفاعاً خيالياً. وهكذا اشترى معظم أسهم شركة السكر والتكرير المصرية التي كان يملكها رجل أعمال بلجيكي يدعى هنري نوس. وعندما مات هنري نوس أسندت إدارة الشركة إلى ابنه هوغ، لكن عبود العضو البارز في مجلس إدارة الشركة استغل هذه الفرصة وأوعز لأصدقائه الإنجليز ليقوموا بتجنيد الابن رغم أنفه، وتم ذلك فعلاً ويذهب هوغ نوس ليشارك في الحرب ولا يعود منها، فقد قتل في إحدى المعارك. وخلا الجو لعبود لينفرد بإدارة شركة السكر رئيساً والعضو المنتدب لها، وظل رئيساً لمجلس إدارتها حتى تم تأميمها في عام 1961

وكانت لأرمنت عند عبود هوى خاص، حتى إنه اشترى تفتيش الكونت الفرنسي دي فونتارس (6000 فدان) الذي كان يعمل أجيراً فيه – بعد هجرة الكونت إلى البرازيل- واشترى أيضاً قصره بأرمنت (سراي عبود)، وكان أحد قصور الخديو إسماعيل إذ بناه لاستضافة أوجيني إمبراطورة فرنسا أثناء زيارتها لافتتاح مصنعه بأرمنت الذي واكب افتتاحه افتتاح قناة السويس في نوفمبر تشرين ثانٍ عام 1869
اشترى عبود المكان الذي بدأ فيه رحلته موظفاً صغيراً، بكل ما فيه من منشآت ومنازل ومخازن وحظائر بمبلغ 60 ألف جنيه، وسجل هذه الأملاك باسم ابنته الطفلة مونا. كان عبود أثناء زياراته السنوية القصيرة لأرمنت يقيم في القصر المذكور مع شقيقه مصطفى الذي بنى مسجد أرمنت العتيق. وللاستمتاع بالأيام القلائل التي يقضيها مع زوجته وابنته، بنى المليونير حماماً للسباحة وملاعب للغولف والبولو والإسكواش والتنس
أقام عبود في حديقته لاحقاً قصراً - بكلفة 30 ألف جنيه بخلاف قيمة الأثاث والمفروشات- صممه مهندس إيطالي ويعد من التحف المعمارية المميزة، تزوجت فيه ابنته مونا من المهندس المصري محمد علي حسين الذي ترأس مصلحة الميكانيكا والكهرباء في وزارة الأشغال، وكان عضواً بمجلس إدارة شركة سيمنز الألمانية
وقد اشترت شركة السكر هذا القصر من الحراسة بعد التأميم. وبعد إلغاء الحراسة اشترى القصر الاقتصادي المصري مصطفى الزناتي أحد أبناء قرية الضبعية إحدى قرى مركز أرمنت والتي ضُمت أخيراً إلى مركز الأقصر
امتدت إمبراطورية عبود باشا الذي أصبح أغنى أغنياء مصر إلى دائرة السياسة والرياضة والسياحة، وكان يملك معظم أسهم شركة الفنادق المصرية، إضافة إلى شركات الأسمدة في عتاقة والكراكات المصرية، وغيرها من شركات الصناعات الكيميائية، والتقطير، والغزل والنسيج التي أنشأها قرب نهاية أربعينيات القرن العشرين
وفي تلك الفترة الزمنية، كتب مقالاً صحفياً تحت عنوان "كيف تصبح مليونيراً" قدم فيه نصائحه وخلاصة تجربته، وافتتح المقال بقوله: "ليس النجاح من الأسرار، ولكنه أولاً وقبل كل شيء توفيقٌ من الله، فقد تجتمع في شخصٍ كل مؤهلات النجاح من شهاداتٍ وجاه وشخصية قوية، لكن سوء الحظ يلازمه فلا ينجح في أي عملٍ يقوم به، بينما ينجح من هو أقل منه في الكفاءة والجاه، وأضعف منه شخصية"!
وبلغ من نفوذ عبود أنه أجبر طلعت حرب مؤسس بنك مصر وأشهر أعلام النهضة المصرية على الاستقالة من بنك مصر في 14 سبتمبر أيلول 1939 الذي أسسه بعرقه وجهده
فقد اشترك عبود وفرغلي باشا ملك القطن في تنفيذ سياسة قوامها سحب ودائعهما من البنك بمعدل نصف مليون جنيه يومياً حتى بلغ السحب ثلاثة ملايين جنيه، كما هددت الحكومة التي يترأسها حسين سري - صديق عبود باشا- بسحب ودائع الحكومة فاضطر طلعت حرب للاستقالة حتى لا يهتز مركز البنك وترك إدارته لحافظ عفيفي طبيب الأطفال، وهو صديق أثير للإنجليز ولعبود
في 13 يناير كانون ثانٍ 1944، أقام النادي الأهلي بالجزيرة حفلة شاي تكريماً لكل من أحمد عبود باشا وعبد الحميد عبد الحق، بمناسبة تبرع عبود باشا بثلاثة آلاف جنيه لإتمام إنشاء حمام السباحة بالنادي، وتقديراً لما قدمه الثاني للنادي والهيئات الرياضية الآخرى. ووقف رئيس النادي أحمد حسنين باشا – رئيس الديوان الملكي- وألقى كلمة استهلها بقوله: "إني بعد أن حنيت رأسي للراحل الكريم جعفر ولي باشا (رئيس النادي الأهلي سابقاً) أرفع رأسي بالشكر للرجلين الكريمين الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الشؤون الاجتماعية السابق وأحمد عبود باشا". ثم أشار إلى ما كان من اعتماد الوزير عبد الحق ثلاثة آلاف جنيه مساهمة في إنشاء حمام السباحة في النادي الأهلي، وإلى تبرع عبود باشا بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه أخرى للغرض نفسه
تولى أحمد عبود باشا رئاسة النادي الأهلي لمدة 15 عاماً (19 فبراير شباط 1946-19 ديسمبر كانون أول 1961) فاز فيها دائماً بالرئاسة بالتزكية، وكانت تلك الفترة من أزهى عصور الأهلي، حيث حصل خلالها على تسع بطولات متتالية للدوري من 1947 حتى 1956 (حسن المستكاوي، النادي الأهلي (1907 - 1997) بطولة في الرياضة والوطنية، 1997). وطوال فترة رئاسته النادي الأهلي، كان عبود باشا ينفق على النادي من جيبه الخاص رافضاً أية إعانة من الحكومة. وهو الذي بنى حمام السباحة من جيبه الخاص، وهدم مدرج الدرجة الثالثة القديم وبنى المدرج الحالي.. ثم بنقوده ونفوذه اقتطع الجزء الكبير من نادي الفروسية ليطل النادي على كورنيش النيل
وحكاية مباراة بورسعيد مشهورة، إذ أبدى أمين شعير مدير الكرة بالأهلي انزعاجه لعدم استطاعة صالح سليم كابتن الفريق اللحاق بالمباراة رغم قوة فريق المصري البورسعيدي في تلك الأيام؛ لأن صالح كان سيؤدي امتحاناً في كلية التجارة ينتهي في الواحدة ظهراً في حين أن المباراة في بورسعيد في الثالثة ظهراً. وما إن علم عبود باشا بالأمر حتى أرسل سيارته إلى الجامعة لتأخذ صالح بعد الامتحان مباشرة إلى المطار، حيث كان في انتظاره عبود باشا وأخذه معه في طائرته الخاصة إلى بورسعيد ليلحق بالمباراة (عبد الرحمن فهمي، تعالوا نصحح التاريخ، جريدة الجمهورية، 5 مارس آذار 2007)
أُبعِدَ أحمد عبود باشا عن رئاسة النادي الأهلي بعد شهورٍ من زيارة جمال عبد الناصر ومعه ملك أفغانستان للنادي الأهلي في أكتوبر تشرين أول 1960 إذ صدرت قوانين يوليو الاشتراكية، فلم يكمل عبود مدته كرئيس للنادي الأهلي وترك منصبه في 17 أكتوبر تشرين أول 1961
وقد أنشأ عبود باشا عام 1939 أكبر وأعلى عمارة في مصر كلها في ذاك الوقت، وكانت تتكون من 13 طابقاً، وكان الناس يزورونها ليروا هذا البناء الشامخ في شارع المدابغ الذي أصبح فيما بعد اسمه شارع شريف في وسط القاهرة، وهي تقع على ناصية شارعي شريف وقصر النيل، وأطلق عليها اسم عمارة الإيموبيليا
كان لاعبو الأهلي يذهبون كل أسبوع إلى مكتب عبود باشا بالعمارة، منهم صالح سليم وعبد الوهاب وطارق سليم وميمي الشربيني وعادل هيكل وسعيد أبو النور وفؤاد أبو غيدة ومروان كنفاني وعوضين.. ويذهب معهم أحياناً أصدقاؤهم من لاعبي الزمالك نبيل نصير وعلي محسن ورأفت عطية وعلاء الحامولي
كان عبود باشا يشترط على من يسكن العمارة أن يكون أهلاوياً، لكنه لم يشترط ذلك بالنسبة للموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كان يجهر بزملكاويته هو وأم كلثوم
خصص أحمد باشا عبود شقتين في عمارة الإيموبيليا للمغتربين من لاعبي الأهلي وقام بتوظيف بعض اللاعبين كموظفين بشركة البوستة الخديوية، وهي أكبر شركة ملاحة وبواخر في الشرق الأوسط في ذاك الوقت ومقرها في العمارة نفسها، ومنهم فؤاد أبو غيدة ومروان وسعيد أبو النور وأحمد زايد وعوضين وغيرهم، وتم الاستغناء عن خدماتهم بعد تأميم عمارة الإيموبيليا وباقي ممتلكات عبود باشا
عددٌ كبير من الفنانين كانوا يسكنون العمارة وبعضهم لهم مكاتب فنية منهم عبد الحليم حافظ. أما السكان فكان بينهم نجيب الريحاني، وليلى مراد وأنور وجدي بعد زواجهما، وأسمهان وأحمد سالم بعد زواجهما أيضاً، وكاميليا، وعبد العزيز محمود، وكمال الشيخ، وهنري بركات، ومحمود المليجي، وماجدة الصباحي، وماجدة الخطيب ومحمد فوزي وزوجته مديحة يسري وغيرهم

وكان لعبود باشا معاركه مع الصحافة
ومن ذلك أن الصحفي محمد توفيق دياب كتب في صحيفة "الجهاد" في فبراير شباط 1932 ضد عبود باشا، وبدأ الجولة بمقال يحمل عنواناً يقول: "المبرقعون المصريون في شركة ثورنيكروفت" ثم أتبعه بمقال آخر يحمل عنواناً يقول: "اقرأوا واعجبوا أيها المصريون... عبود باشا يملك أكثر من ٥٢% من شركة ثورنيكروفت وسوارس المندمجتين". وتحدث دياب عن مشاركة عبود باشا في تعلية خزان أسوان. ولم يكن مستغرباً أن تنتهز حكومة إسماعيل صدقي باشا الفرصة وتحرض عبود باشا على أن يتقدم ببلاغ ضد "الجهاد"، مطالباً بتعويض مدني قدره عشرون ألف جنيهوانتهى الأمر بأن قدمت حكومة صدقي بلاغاً إلى النائب العام ضد توفيق دياب؛ باعتبار أن ما ورد في مقاله ينطوي على طعن واضح في هيئة نظامية وهي البرلمان، ولكن دياب ظل على إصراره وواصل الهجوم على الحكومة حتى انتهى الأمر إلى محاكمته في قضيتين إهانة البرلمان والطعن في عبود باشاوفي يوم الاثنين ٢٧ فبراير شباط عام ١٩٣٣ صدر الحكم بحبس توفيق دياب لمدة ثلاثة أشهر وغرامة خمسين جنيهاً. ولأنه قد سبق أن حكم عليه في ٣١ مارس آذار ١٩٣٢ بالحبس ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ فقد أصبح هذا الحكم واجب النفاذ مع صدور الحكم الثاني
وفي نوفمبر تشرين ثانٍ 1933 تولى الوزارة عبد الفتاح يحيى باشا خلفاً لإسماعيل صدقي وخلفه أيضاً في رئاسة الحزب. وبعد أيام من عمر وزارته أثيرت أزمة تتعلق بوزير الأشغال العمومية عبد العظيم راشد باشا، الذي اتًهِمَ بأنه أسند إلى أحمد عبود بعض المقاولات بالأمر المباشر، مخالفاً بذلك القوانين واللوائح المعمول بها
ونشرت الصحف - وبالذات جريدة "السياسة" التي كان يرأس تحريرها د. محمد حسين هيكل- الأنباء مزودة بالتفاصيل، بل إن د. هيكل كتب سلسلة مقالاتٍ ساخنة تحمل عنوان "نزاهة الحكم". (د. محمد حسين هيكل، مذكرات في السياسة المصرية (الجزء الأول)، دار المعارف، القاهرة، 1977، ص 357-360). وصل الأمر إلى إحالة الموضوع للنيابة ثم إلى القضاء، ولكن عبود الذي كانت تربطه بالمندوب السامي البريطاني مصالح واسعة لم تهزه الأزمة، حيث تدخل المندوب السامي لدى الملك فؤاد الذي ضغط على رئيس الوزراء لتقديم استقالته، فاستقال رئيس الوزراء الذي ذكر في كتاب استقالته أنه قدمها بناء على رغبة الحكومة البريطانية دون تفريط في حقوق البلاد
ولا بد أن نشير إلى أن طائرة أحمد عبود الخاصة لعبت دوراً مؤثراً في حادث 4 فبراير 1942
فقد عاد مصطفى النحاس باشا على متن هذه الطائرة من الأقصر لتشكيل الوزارة التي جاءت في أعقاب الإنذار الإنجليزي للملك فاروق ومحاصرة الدبابات لقصر عابدين
وبالرغم من أن عبود بنى مدرسة ثانوية في أرمنت وكوم أمبو على نفقة شركة السكر ومستوصفاً للعلاج، فإنه لم ينجح في اختبار الشعبية أمام منافس وفدي
وكان عبود النائب عن أرمنت في البرلمان عن حزب الوفد عام 1942 قد رشح نفسه عن دائرة أرمنت مرة أخرى لبرلمان 1945 ضد أبو المجد بك الناظر، القطب الوفدي المعروف وأحد أبطال ثورة 1919
طلب زعيم الوفد مصطفى النحاس من أبو المجد الناظر التنازل لصالح أحمد عبود باشا، فأرسل له برقيته المشهورة:
"شاورت نفسي وأهلي فأبوا"
وسقط عبود ونجح الناظر
كان الاقتراب من قصر عبود في أرمنت جريمة لا تغتفر، لهذا كانت جماهير أرمنت تهتف في الانتخابات: يسقط عبود الزاني، يحيا أبو المجد بك الناظر
وعندما ثار الفلاحون في أرمنت على أحمد عبود وحاولوا اغتياله على سلم يخته، طالت الرصاصات مفتش تفتيشه عبد الرحمن عرفات فاغتالته
تدريجياً، بدأ عبود باشا يشعر بالقلق على الاستقرار السياسي في مصر، وهو ما يمس بالضرورة مصالحه المالية والاقتصادية
ويقول محمد حسنين هيكل (ثورة يوليو خمسون عاماً: السؤال الأول ملك تحت الحصار!، مجلة وجهات نظر، عدد يوليو 2002):
"ولم يكن الملك فاروق وحده المصاب بالقلق لما آلت إليه الأحوال ـ بل كان هناك غيره أصيبوا بالأرق إلى جانب القلق، لأنهم أصحاب مصالح حقيقية في مصر يخشون عليها ويحرصون على ضمانها، ولذلك كان اقترابهم من السياسة ـ منطقياً..وفي الظروف الطارئة فإنه أصبح حيوياً ـ وكان أول هؤلاء هو المالي الكبير أحمد عبود (باشا)
"كان عبود (باشا) رجلاً عالي الكفاءة في مجال الأعمال، وكان يقول عن نفسه إنه "يلمس التراب فيحيله ذهباً" ـ غير أنه كان يعرف أن تحويل التراب إلى ذهب يحتاج إلى حماية تسبق وتجاري وتلاحق حركة الذهب! ـ وهنا كانت في حاجة إلى القرب من السلطة إلى أي درجة يستطيع بلوغها
"[وقلت مرة لعبود (باشا): "إنه رجلٌ يستحيل عليه أن يكون ملكاً لأنه لا يحوز المواصفات اللازمة ـ لكنه يحلم بمقدرة صنع الملوك لأنه يحوز المصالح المُلزمة، وذلك وضعٌ شديد الخطر على البلد وعليه أيضاً!
"وقد سمعني الرجل مطرقاً برأسه متأملاً!]"
ولا يفوت هيكل أن يقول: "كان القصر (حتى أيام الملك فؤاد) يشك في توجهات عبود (باشا) ومساعيه، ولعل ذلك في جزءٍ منه كان يرجع إلى التناقض الطبيعي بين "الملوك" و"الأثرياء". والأثرياء في أوطانهم خصوصاً عندما يزيد الثراء وتتجلى مظاهره، فإن الغنى القديم والموروث ـ يحس بنوع من الغيرة إزاء الغنى الطارئ الذى يعلن عن نفسه متباهياً وأحيانا مستفزاً!"
وبناء على حسابات المصلحة، مال عبود باشا إلى حزب الوفد ، ربما لاعتقاده أن ذلك الحزب هو القادر أكثر من غيره على توفير "الاستقرار" السياسي على الأقل بهيبة الشرعية
وتحفل الوثائق البريطانية عام 1944 بتفاصيل جهود يقوم بها عبود باشا في لندن لتجنب السماح للملك بإقالة النحاس باشا. وفي رسائل عدة بتوقيع رئيس القسم المصري في وزارة الخارجية تلك الأيام مجموعة رسائل يقول فيها بيتر سكريفنر إن عبود باشا قَدَّم نفسه باعتباره مكلفاً من النحاس باشا شخصياً
ولعل من المهم أن نشير إلى أنه طوال السنوات التي تلت إقالة حكومة النحاس باشا وحتى عام 1948، كان عبود باشا يتصل ويدعو لعودة الوفد إلى الحكم، لكنه عندما بدأ يتحرك عملياً في ظروف مواتية لأفكاره، ظهر أن مرجعه فى الوفد هو فؤاد سراج الدين باشا، وكان اللقاء بين الرجلين نتيجة عددٍ من العوامل المتشابكة
يلخص هيكل في مقاله المذكور تلك الأسباب قائلاً: "فالمالي الباحث عن "الاستقرار السياسي" ويجده في الوفد ـ لا يرى أمامه في هذا الحزب ـ مع نهاية الأربعينيات ـ غير فؤاد سراج الدين (باشا)
"ثم إن المالي الراغب في العمل السياسي من وراء الستار، يجد أرضية مشتركة مع نجم طالع، حتى وإن كان يمارس نفوذه في الوفد من وراء الستار
"يضاف إلى ذلك أن الوفرة في الثروة جامع بين الاثنين ـ ثم إن مشروعات رأس المال تستطيع أن تلتقي بسهولة مع مشروعات النفوذ السياسي، خصوصا عندما تكون السياسة في صالونات "الأوبيسون" وبعيداً عن سرادقات الفراشة التي لا تفرق بين مهرجانات فيها أو جنازات!
"كذلك فإن فؤاد سراج الدين (باشا) اقترب لبعض الوقت ـ ولم يبق طويلاً ـ من تقليد أن أبناء كبار الملاك الزراعيين في الريف يستكملون وجاهة المدن بعضوية مجالس إدارة الشركات المالية والصناعية، وهنا فإن شركات عبود (باشا) مقصد وموقع
"وهكذا فإنه طوال عام 1948 كان أحمد عبود باشا يراهن على حزب الوفد ـ وفي داخل حزب الوفد، فقد كان موضع رهانه هو موقع فؤاد سراج الدين باشا. وأكثر من ذلك فإن عبود (باشا) رفع قيمة الرهان، ووصل إلى حد وضع الرصيد كله على رئاسة فؤاد سراج الدين لوزارة وفدية يباركها النحاس باشا ويرعاها من بعيد"

وتُظهر ملفات وزارة الخارجية البريطانية (5187 بتاريخ 21 يناير كانون ثانٍ 1950) ـ أن ذلك التقرير المستفيض من السفير البريطاني وصل إلى وزير الدولة البريطاني وقتها هكتور ماكنيل الذي علق عليه بخط يده يوم 25 يناير بما نصه:"إنني أشعر بالقلق وأنا أقرأ التقارير الأخيرة من سفيرنا في القاهرة، خشية أن يبدو موقفنا وكأن لدينا شيئاً من التعاطف مع الملك، إن عودة النحاس إلى الحكم تؤكد إلى جانب علامات أخرى شعوراً لدى الناخبين معادياً للقصر، ومع اعتقادي بأن نسبة المشاركة في التصويت ضئيلة جداً، فإن ما يمكن استخلاصه منها هو أن الطبقات ذات الوزن في مصر لم تعد على استعداد لهضم تصرفات فاروق وهذه ظاهرة مهمة
ثم يضيف وزير الدولة هكتور ماكنيل إلى ما سبق فقرة تستحق التأمل:"إن السفير يحسن صنعاً لو نسق خطاه مع عبود (المليونير أحمد عبود باشا)، نحن نعلم أن عبود نصاب (Crook)، ولكن ميزة الرجل أنه لا يخفي حقيقته سرا، ثم إنه رجل بارع جدا فيما يقوم به، ومع أن مصالحه هي التي تحركه، فإنه يبقى أنفع لنا وسط هذه الفوضى في القاهرة. وفي كل الأحوال فإن علينا أن نبقى بعيدين لبعض الوقت، ونترك الأمور لتفاعلاتها في مصر، ونقوم نحن بِطَي أشرعتنا Trim Our Sailsإمضاء: هـ. ماكنيل!"
وتتحدث أخبار عام 1952 عن أن وزارة أحمد نجيب الهلالي (أول مارس آذار 1952- 2 يوليو تموز 1952) الذي اشتهر بالصلابة في الحق والاعتزاز بالنفس والعداء للقصر، أسقطها عبود باشا لأنها لم تأتِ على هواه وطالبت شركاته بالضرائب. وبحسب مجلة "تايم" الأمريكية، فإن الهلالي كان يدرس 140 اتهاماً بالتهرب من الضرائب ضد عبود باشا، كانت حكومة الوفد قد ألغتها قبل تشكيل وزارة الهلالي
(What Happened to Hilaly, Time magazine, 14 July 1952)
ويقول تقرير لمراسل المجلة الأمريكية إن كريم ثابت – المستشار الصحفي السابق للملك فاروق- عرض على السفير الأمريكي جيفرسون كافري دعم الوفد لمشروع قيادة الشرق الأوسط الذي تتبناه وزارة الخارجية الأمريكية لمواجهة السوفييت، مقابل ممارسة واشنطن نفوذها لإقناع الملك فاروق بإقالة حكومة الهلالي وتعيين حكومة وفدية جديدة. والسبب هو أن حملة مكافحة الفساد التي يقودها الهلالي كانت تقترب من كبار رموز الوفد أكثر فأكثر
مصادر ومراجع مصرية أخرى تذهب إلى القول بأن عبود اتفق مع مستشاري الملك فاروق على رشوة الملك بمليون فرنك لإقالة وزارة نجيب الهلالي التي جاءت لتنقب في ملفات الفساد ورفعت شعار "التطهير قبل التحرير"
أقيل الهلالي، ليشكل عبود باشا من قصره في أرمنت وزارة جديدة برئاسة صديقه حسين سري باشا، الذي كان نائب رئيس مجلس الإدارة في شركتي السكر والأسمدة اللتين يملكهما عبود. وهكذا دفع عبود رشوة مليون فرنك ليتخلص من خمسة ملايين دولار ضرائب (مصطفى بيومي، أحمد عبود "الاقتصادي العصامي"، سلسلة رواد الاستثمار، مركز إعداد القادة لإدارة الأعمال، وزارة المالية، مصر، 2008)

وما هي إلا أيام، حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952 لتتغير الخريطة السياسية والاقتصاية في مصروفي 15 أغسطس آب 1955، وقعت أول مواجهة بين الثورة المصرية والرأسماليين، إذ جرى فرض الحراسة على شركة السكر، التي يمتلكها أحمد عبود باشا
وبعد صدور قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961، آثر عبود الهجرة إلى أوروبا لإدارة أعماله بجزء من أموال تمكن من تهريبها إلى هناك. وكان قد علم أو أحس بأن الدولة مقبلة على التأميم، وكانت بالصدفة المحضة كل بواخره في عرض البحر ما عدا باخرتين واحدة في ميناء السويس وأخرى بالإسكندرية، فأصدر تعليماته بسفر باخرة إلى جدة وأخرى إلى بيروت في انتظار أوامر أخرى، ثم اتصل لاسلكياً بباقي بواخره في عرض البحر بعدم العودة إلى الإسكندرية الآن، ثم استطاع أن يحول أمواله السائلة بالبنوك إلى بنوك سويسرية بطريقة أو بأخرى، ثم سافر إلى نابولي في إيطاليا ليستدعي بواخره واحدة بعد الأخرى ليبيعها هناك. وأصبحت لديه أصولٌ سائلة تكفيه هو وابنته الوحيدةمارس عبود باشا نشاطه التجاري في أوروبا، وحقق نجاحاً كبيراً كتاجر ومستشار اقتصادي، إلى أن وافاه الأجل المحتوم في لندن في مطلع يناير كانون ثانٍ 1964 بعد أن هزمته أمراض القلب والكُلىاسم عبود باشا وثراؤه لم يشفعا لورثته: أحمد عبود محمد علي ونادية محمد علي وأولاد ابنته الوحيدة مونا وابنة شقيقته زينب محمد شوقي، الذين حصلوا على حكم نهائي في يناير كانون ثانٍ 2006 بعد رحلة تقاضٍ استمرت ٣٠ عاماً باسترداد عقارهم المهجور بجليم بالإسكندرية البالغة مساحته ٤٤٠٠ م٢ والذي يتجاوز ثمنه ٥٠ مليون جنيه

غير أن العقار الذي تسيطر عليه رئاسة الجمهورية لم يعد إلى الورثة، رغم أنف القانون

0 التعليقات:

إرسال تعليق

;